
مقدمة
يشكل إعداد وتنفيذ ميزانية الجماعة الترابية محورًا أساسيًا في تدبير الشأن المحلي، لما له من أثر مباشر على قدرة الجماعة على تقديم الخدمات العمومية وتنفيذ مشاريع التنمية المحلية. إن الإطار القانوني لتنظيم هذه العملية يتأسس أساسًا على القانون التنظيمي رقم 113.14 المتعلق بالجماعات، إضافة إلى مجموعة من النصوص التطبيقية ومن ضمنها المرسومان المتعلقان بمنح التسبيقات وإيداع أموال الجماعات لدى الخزينة العامة للمملكة، فضلاً عن أحكام قانون المالية والأنظمة العمومية للمحاسبة والخزينة. يهدف هذا الجواب إلى عرض منهجي ومحلل للخطوات والإجراءات الواجب اعتمادها لإعداد وتنفيذ ميزانية جماعة ترابية، مع توضيح الآليات القانونية والمالية المتاحة لمعالجة العجز المؤقت وضمان توازن النفقات والإيرادات، مستنداً إلى النصوص التنظيمية الجاري بها العمل.
عرض
أولا: الإطار القانوني والمؤسساتي المرجعي
يعتمد تدبير الميزانية المحلية على مجموعة من المراجع القانونية من أبرزها:
- القانون التنظيمي رقم 113.14 المتعلق بالجماعات (المؤطر للسلطات والصلاحيات والواجبات المرتبطة بالميزانية والتدبير المالي والمحاسبة العمومية على مستوى الجماعات).
- المرسومان المتعلقان بمنح التسبيقات وإيداع أموال الجماعات لدى الخزينة العامة للمملكة واللذان ينظمان آليات التمويل القصير الأجل وتدبير السيولة النقدية للجماعات وكيفية إيداع واستثمار الأموال في الخزينة.
- قانون المالية السنوي وأحكام المحاسبة العمومية التي تحدد قواعد إعداد الاعتمادات، وتنفيذ النفقات، وطرق تسجيل الإيرادات.
ثانيا: خطوات وإجراءات إعداد الميزانية
تتوزع عملية إعداد الميزانية في الجماعات الترابية إلى مراحل متسلسلة ومحددة، وهي:
- التخطيط والبرمجة المسبقة: إعداد برامج عمل وسجل للمشاريع مع تقدير الاحتياجات المالية (خطة عمل سنوية ومتعددة السنوات)، بما يتوافق مع الاستراتيجية المحلية والموازنات المتاحة.
- إعداد المسودة من طرف الإدارة المختصة: تُعد مصلحة الجماعة المختصة (المصالح المالية والمصالح التقنية) مشروع الميزانية وفق تصنيفات الإيرادات والنفقات (ميزانية التسيير والميزانية الاستثمارية)، مع مراعاة أحكام القانون التنظيمي 113.14 ودورية قانون المالية.
- موافقة رئيس المجلس وإحالته للعرض على المجلس: يعرض رئيس الجماعة أو السلطة التنفيذية مشروع الميزانية على المجلس للنقاش والمصادقة داخل الآجال المنصوص عليها قانونياً.
- المناقشة والمصادقة من طرف المجلس: يقوم المجلس الجماعي بمناقشة البنود والتصويت على الاعتمادات النهائية وتبني الموازنة بالتصميمات المطلوبة. يجب أن تضمن الموازنة توازناً مالياً أولياً (توافق بين مجموع الإيرادات ومجموع النفقات) كما ينظمها القانون.
- التبليغ والرقابة الإدارية والمالية: تُرسل الموازنة المصادق عليها إلى المصالح الإدارية والمالية المختصة (العمالة/الولاية، الخزينة العامة) للعرض على الجهات الرقابية إذا اقتضى الأمر، واحترام إجراءات الإيداع وفق المرسوم المتعلق بإيداع أموال الجماعات.
ثالثا: إجراءات تنفيذ الميزانية ومراقبتها
تضمن مرحلة التنفيذ احترام القواعد التالية:
- التقييد بالاعتمادات المعتمدة من المجلس وعدم تجاوزها إلا وفق آليات قانونية (نقل الاعتمادات أو اعادة تخصيصات عبر مداولات المجلس).
- الالتزام بقاعدة الفصل بين الالتزام والدفع: إصدار الالتزامات من المسؤول المختص ومتابعة إجراءات الطلبات والدفعات عبر أمين صندوق الجماعة/الخزينة.
- تنفيذ الاستثمارات وفق الصفقات العمومية وقواعد التعاقد المعمول بها لضمان قانونية النفقات وكفاءتها.
- المراقبة الداخلية ومتابعة الأشطر: إعداد تقارير مالية دورية، إعداد محاضر تسوية والاستجابة لملاحظات المفتشية والمصالح الرقابية.
رابعا: الآليات القانونية والمالية لمعالجة العجز المؤقت وضمان التوازن
تعاني الجماعات أحياناً من عجز مؤقت يتهدد توازن الموازنة؛ وتتوفر عدة آليات قانونية ومالية للتعامل مع هذا الوضع:
- التدخل عبر التسبيقات المنصوص عليها بالمرسوم: التسبيق (advance de trésorerie) هو آلية مؤقتة تمكن الجماعة من الحصول على سيولة من الخزينة العامة لسد فجوة مؤقتة. يشترط أن يتم منحه وفق الضوابط القانونية (تحديد سقف التسبيق، شروط السداد، المدة) وبموافقة الجهات المختصة. تُعتبر هذه الآلية ملائمة لسد احتياجات السيولة المؤقتة دون المساس بالتوازن البنيوي.
- إدخال تعديلات في الميزانية (نقل الاعتمادات وإعادة التهيئة): يمكن للجماعة، عبر مداولة المجلس، إعادة توزيع الاعتمادات بين البنود لتغطية نفقات ملحة. يُستخدم هذا الحل لتفادي التفريط في تنفيذ المشاريع الأساسية أو لضبط الأولويات.
- الإجراءات الإدارية لتسريع وتحصيل الإيرادات: تتخذ الجماعة إجراءات لتحصيل الديون المحلية والضرائب والرسوم (حملات تحصيلية، مراجعة تقييمات، تسهيلات دفع) لرفع مستوى الموارد الذاتية وتقليص العجز.
- الاستدانة الموجهة ذات الشروط: يلجأ بعض المجالس إلى الاقتراض قصير أو متوسط الأمد وفق الضوابط القانونية (موافقة السلطات الوصية والالتزام بالحدود المقررة)، على أن يكون ذلك مبرراً وغير ممكّن لإحداث عجز هيكلي.
- تطبيق قواعد الانضباط المالي وتجميد النفقات غير الضرورية: تجميد النفقات الغير أساسية، تأجيل بعض الاستثمارات غير العاجلة، ومراجعة عقود يمكن أن يساهم في توازن سريع للموازنة.
- الرجوع إلى دعم الدولة أو الشراكة: في حالات خاصة يمكن طلب دعم استثنائي من الدولة أو اللجوء إلى شراكات مع القطاع الخاص لتمويل مشاريع أساسية، مع احترام الشروط القانونية المطبقة.
خامسا: الضمانات القانونية والإجرائية لمنع العجز البنيوي
لضمان توازن مستدام يجب أن تعتمد الجماعات التدابير التالية:
- إعداد برمجة مالية متعددة السنوات (تخمينية) تربط بين الموارد المتوقعة والتزامات الاستثمار والتسيير.
- اعتماد نظام محاسبي رقمي وشفاف يسهل تتبع الإيرادات والنفقات وتحسين التوقعات (منظومات المعلومات المالية الجماعية).
- تعزيز المراقبة الداخلية والرقابة اللاحقة (مفتشية الجماعات والسلطات الإدارية المختصة) للتأكد من حسن تنفيذ الصفقات والوفاء بالالتزامات.
- تنمية المورد الذاتي عبر تحديث جداول الرسوم، فرض تسويات مستحقة، وتحسين إدارة الأملاك الجماعية.
سادسا: صعوبات وتحديات واقعية وحلول عملية مقترحة
تواجه الجماعات الترابية عراقيل عملية مثل ضعف القاعدة الضريبية، تأخر تحويلات الدولة، قلة الموارد البشرية المتخصصة، وضعف نظم المحاسبة. من الحلول العملية المقترحة:
- برامج تكوين مستمر للمصالح المالية بالجماعات في مجال إعداد الميزانية ومتابعتها.
- إرساء إجراءات صارمة للتحصيل ومتابعة الديون المحلية مع اعتماد تكنولوجيا المعلومات لتحسين الأداء.
- تعزيز الاستدامة المالية عبر التخطيط متعدد السنوات وإشراك الفاعلين المحليين في رسم الأولويات.
- العمل بتقارب مع مصالح الولاية والخزينة لضمان آليات مرنة ومراقبة في منح التسبيقات وإدارة السيولة.
خاتمة
إن إعداد وتنفيذ ميزانية جماعة ترابية وفق أحكام القانون التنظيمي رقم 113.14 والنصوص التطبيقية المتعلقة بمنح التسبيقات وإيداع أموال الجماعات لدى الخزينة العامة يشكل ركيزة للحكامة المحلية الفعالة. يتطلب ذلك التزاماً دقيقاً بالإجراءات القانونية في إعداد المسودات، مصادقة المجالس، والإيداع والتنفيذ تحت رقابة الخزينة والسلطات الوصية. ومع مواجهة العجز المؤقت، توفر النصوص التنظيمية آليات مؤقتة (التسبيقات، إعادة تخصيص الاعتمادات، الاقتراض ضمن الضوابط) بشرط احترام الشفافية والالتزام بخطط استدراكية للحفاظ على التوازن المالي. إن تحسين الأداء المالي للجماعات يمر عبر التخطيط متعدد السنوات، تحديث نظم المحاسبة، تأهيل الموارد البشرية، وتعزيز آليات التحصيل والرقابة، وهو ما يضمن استدامة الخدمات العمومية وتنمية الأقاليم المحلية.
التعبيراتالتعبيرات
ملحوظة: يمكن لأعضاء المدونة فقط إرسال تعليق.